الـهـجـرة 22

الحمد لله الذي جمل الوجود بأكرم الخلق, وصفوة العالمين.. وأيده بالقرآن..هدى و رحمة للناس أجمعين .. أشهد أن لا إله إلا الله..وحده لا شريك له.. مـن علينا بالإسلام.. وأرسل إلينا محمدا عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام..و أشهد أن سيدنا و حبيبنا و عظيمنا محمدا عبده و رسوله.. بلـغ الرسالة..وأدى الأمانة..و نصح الأمة.. وجاهد في الله حق جهاده ..اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته.. واجزه عنا خير ما جازيت نبيا عن أمته..ويسر لنا اتباع نهجه والتزام سنته.. ولا تحرمنا اللهم من ورود حوضه و نيل شفاعته..
أما بعد ... إخوة الإيمان والعقيدة
حل بزماننا شهر المولد النبوي .. شهر ربيع الاول .. وهذا الشهر المبارك .. هو شهر الحبيب المصطفى ..صلى الله عليه وسلم .. فهو شهر الولادة .. و شهر الهجرة و شهر الوفاة .. ففي الثاني عشر من شهر ربيع الاول ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم .. وفي الثاني عشر من ربيع الاول .. وصل الى المدينة مهاجرا ..و في الثاني عشر من ربيع الاول توفاه الله تبارك و تعالى ..فلحق بالرفيق الاعلى .. وفي لقائنا اليوم ..نتحدث باذن الله عن الهجرة .. من مكة المكرمة الى المدينة المنورة .. فالهجرة لم تقع في رأس السنة الهجرية .. انما تمت في هذه الايام .. من هذا الشهر المبارك ..هذه الهجرة المباركة .. لم تكن هينة .. كانت فيها مشقة الفراق .. فراق الاهل ..و فراق الديار ..و ترك الاعمال و الاموال .. يقول الله تبارك و تعالى .. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ .. ولم تكن الهجرة هينة .. كان فيها اعتراض من كفار قريش كان فيها صد و منع .. وكانت سيوف و دماء .. يقول الله جل جلاله .. فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا .. ليصلنا هذا الدين .. على طبق من ذهب .. قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم و صحابته التضحيات الجسام .. في سبيل الدين الحق .. لينعم المسلمون عبر الاجيال بالدين القيم .. الدين الذي جعله الله منهاجا للعالمين .. كفار قريش لم يهدؤوا لحظة .. منذ أن سمعوا نداء الحق .. استعملوا كل وسائل الردع و الصد و التنكيل .. وجاء امر الله بالهجرة .. فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أصحابه بالخروج الى المدينة المنورة .. فهل سلموا .. هل تركهم كفار قريش يهاجرون آمنين .. تعالوا أيها المؤمنون ..نقف غير بعيد .. من هجرة الصحابة رضوان الله عليهم .. المهاجر ابو سلمة , عبد الله بن عبد الاسد المخزومي .. ترتيبه في الدخول في الاسلام .. الحادي عشر .. ما سبقه للدين الجديد الا عشرة .. أمه بره بيت عبدالمطلب ..وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. زوجته هند بنت حذيفة المخزومية .. التي ستصبح يوما أما للمؤمنين .. و زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. بعد وفاة أبي سلمة .. كان ابوسلمة و زوجته ام مسلمة في ريعان الشباب .. لهما ولد .. في طور الرضاع اسمه سلمة .. وأبو سلمة ..هو أول المهاجرين الى المدينة من بني مخزوم من قريش .. ولنترك أم سلمة تروي لنا ..هجرة هذه العائلة من مكة الى المدينة .. تقول أم سلمة .. لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ أعدّ لِي بَعِيرَهُ , ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ .. وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بَعِيرَهُ .. فَلَمّا رَآه رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ أهلي .. قَامُوا إلَيْهِ, فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا ، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ ؟ عَلَامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ ؟ قَالَتْ فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ .. وهاجر ابو سلمة وحيدا على قدميه .. قَالَتْ فسمع بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ,أهل زوجي, سمعوا بما حدث .. فنفروا غاضبين ، قَالُوا : لَا وَاَللّهِ ,لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا .. إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا .. فَتَجَاذَبُوا ابنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ .. حَتّى خَلَعُوا يَدَهُ .. وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ .. وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ . فتمّ الفراق بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي . قَالَتْ فَكُنْت أَخْرُجُ كُلّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي ، حَتّى أَمْسَى .. دمت على ذلك سَنَةً , أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا .. حَتّى مَرّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمّي ، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ , فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي , قَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ .. فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا .. فَقَالُوا لِي : الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْت . قَالَتْ وَرَدّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي . فَارْتَحَلْت بَعِيرِي ثُمّ أَخَذْت ابْنِي فَوَضَعْته فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجْت أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ ، حَتّى إذَا كُنْت بِالتّنْعِيمِ , لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ من بَنِي عَبْدِ الدّارِ .. أحد سادة قريش ..و كان لا يزال مشركا .. و عثمان بن طلحة هو سادن الكعبة .. بيده مفتاح الكعبة .. أسلم في السنة الثامنة بعد الهجرة .. و يوم الفتح .. أعاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة و قال له .. خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً ..لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلّا ظَالِمٌ..يَا عُثْمَانُ .. إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ .. ولا يزال مفتاح الكعبة عند احفاده الى يوم الناس هذا .. وتقول ام سلمة .. قَالَ لِي عثمان بن طلحة : إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ ؟ فَقُلْت : أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . قَالَ أَوَمَا مَعَك أَحَدٌ ؟ فَقُلْت : لَا وَاَللّهِ , إلّا اللّهُ وَبُنَيّ هَذَا . قَالَ وَاَللّهِ مَا لَك مِنْ مَتْرَكٍ.. فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ بِي .. حَتّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ قَالَ زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ .. فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ .. ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ .. مشرك بالله .. كافر .. رعى امرأة مؤمنة .. مسافة خمسمائة كيلمتر ماشيا على قدميه في تخوم الصحراء .. و حين بلغها مقصدها ..قفل راجعا نفس المسافة على قدميه .. لم ينتظر من احد كلمة شكر .. انما هي مروأة و شهامة لم تتحل بها أمة .. غير امة العرب .. حتى جاء الاسلام .. فتالقت مكارم الاخلاق عند المسلمين .. ورفعتهم فوق أهل الارض اجمعين .. هذه اسرة صغيرة من أسر المهاجرين .. عانت في هجرتها قسوة الكفار و المشركين .. ولكل مهاجر معاناة و مخاطر .. ليصلنا هذا الدين .. ينبوع خير .. دافق, يروي القلوب طمأنينة و هناء .. اللهم اهدنا لاتباع سيد المرسلين .. واجعلنا على احياء سنته من العاملين .. واكتبنا من وراد حوضه و اهل شفاعته يوم الدين ..
اقول قولي هذا

الخطبة الثانية

الفاروق .. عمر بن الخطاب .. ضرب في هجرته إلى المدينة أروع الأمثال، وأسمى البطولات وأروع التحديات، فقد هاجر رضي الله عنه بعد أن أذاع نبأ هجرته على الملأ في قريش، في حين كان غيره من المسلمين إذا أراد الهجرة كتم أمره، وخرج على حين غفلة من المشركين. أخرج ابن عساكر عن علي قال: "ما علمت أحداً هاجر إلا متخفياً. إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه ، و انتضى في يده أسهماً، وأتى الكعبة وأشراف قريش ينظرون، فطاف سبعاً، ثم صلى ركعتين عند المقام، ثم وقف أمامهم وقال: شاهت الوجوه.. أي خابت الوجوه .. من أراد منكم أن تفصل رأسه , أو تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي،فاني مهاجر الى يثرب .. فما تبعه أحد منهم .. وهذا وعد الله بالنصر للذين آمنوا .. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ..وتبعه أربعون رجلا من المستضعفين .. و ممن هاجر معه .. رجل اسمه عياش بن أبي ربيعه .. و عياش هو اخ عمرو بن هشام أبو جهل من أمه .. وبعد أن وصل عياش إلى المدينة .. علم أبو جهل بهجرته ، فماذا فعل أبو جهل ؟ ذهب الى أخ ثالث لهما هو الحارث بن هشام .. و اتفقا على استرجاع اخيهما عياش .. و العودة به الى مكة .. وانطلق الاثنان إلى المدينة المنوّرة .. والتقى أبو جهل بأخيه عياش بحضور عمر بن الخطاب .. قال أبو جهل: إن أمك يا عياش .. قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك.. فرقَّ لها عياش، وكان بارًّا جدًّا بأمه .. فقال له عمر بن الخطاب , يا عياش، إنه والله العظيم .. إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكّة لاستظلت.. فقال عياش (وقد خُدِع بكلام أخويه): أبرُّ أمي، ولي مال هناك آخذه .. قال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما.. ولكن أَبَى عياش إلا أن يعود ليبرَّ قسم أمه .. فقال له عمر: أما إذا قد فعلت ما فعلت .. فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ، فالزمْ ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانجُ عليها...وخرج عياش وأخواه أبو جهل والحارث بن هشام إلى مكّة، حتى إذا ابتعدوا عن المدينة دبر الأخوان الكافران خدعة وأمسكا بعياش وقيداه بالحبال، ودخلوا به مكّة موثقًا، ثم قالا لأهل مكّة: يا أهل مكّة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.. وحُبِس عياش بن أبي ربيعة فترة من الزمان، وبلغ أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..فقال لصحابته .. مَنْ لِي بِعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ.. فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة ‏‏:‏‏ أنا لها يا رسول الله ، فخرج الوليد إلى مكة ، فقدمها مستخفيا ، وجعل يتسمع أخبار عياش .. حتى عرف مكان حبسه .. وكان محبوسا في بيت لا سقف له .. وفي الليل .. تسور الجدار ..و نزل حيث عياش .. فضرب بالسيف قيده فكسره .. وانطلق به الى المدينة .. على هذه الصورة .. كانت هجرة الصحابة .. لم تكن بالامر السهل .. انما كانت هجرة لله .. صبروا على ما اصابهم .. ليصل الينا هذا الدين .. سبيلا ممهدا .. لمن أراد أن يتخذ الى ربه سبيلا .. اللهم اهدنا فيمن هديت.. وعافنا فيمن عافيت..و تولنا فيمن توليت..و بارك لنا فيما أعطيت.. واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت .. اللهم بفضلك ارحمنا ..و بحفظك أكرمنا..و بعفوك عافنا واعف عنا..اللهم ارحم آباءنا و أمهاتنا.. واجعلنا و إياهم عندك من المقبولين.. و برضوانك من الفائزين.. برحمتك يا ارحم الراحمين, يا خالق الخلق أجمعين ، يَاحَبِيبَ التَّوَّابِينَ ، يَا قُرَّةَ عَيْنِ الْعَابِدِينَ , يا مجيب السائلين.. نسألك اللهم عزة و رفعة للإسلام و المسلمين.. وذلا و خذلانا لكل من يحارب هذا الدين.. واجعل اللهم بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين..وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
عـبـاد الله إن الله يأمر بالعدل والاحسان