خطبة الجمعة : سعي الآخرة

خطبة الجمعة ..سعي الآخرة.. للإمام الشيخ : عبدالله المؤدب البدروشي .. *
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار عبور واختبار..وجعل الآخرة دار جزاء و قرار ..أشهد أن لا إله إلا الله ..وحده لا شريك له.. أمر عباده بطاعته..وحثهم على ذكره و شكره و حسن عبادته..وأشهد أن سيدنا و حبيب قلوبنا محمدا عبده و رسوله..إمام المتقين.. و قدوة العابدين.. اللهم صل عليه صلاة موصولة إلى يوم الدين..وارض اللهم على آله الأطهرين الأكرمين..وعلى صحابته الغر الميامين..وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..إخوة الإيمان و العقيدة
يفتتح لقاءنا في هذا اليوم المبارك..أمير للمؤمنين..حكم قرابة نصف الأرض.. هو سابع خلفاء بني أمية.. أحبه المؤمنون..وكانوا يتباركون به..ويسمونه مفتاح الخير ..تولى الخلافة مدة سنتين و سبعة أشهر.. وترك إخوته و ولده..واستخلف من بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز..فملأ دنيا الناس عدلا.. هذا الرجل هو سليمان بن عبدالملك.. خرج من دمشق ..نسأل الله أن يبرد ثراها.. وأن يعيد أمانها ويُحكم عراها.. خرج سليمان بن عبدالملك لأداء مناسك الحج.. ولما بلغ المدينة المنورة في طريقه إلى مكة المكرمة ..أراد جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبضعة أيام.. ولما استقر بالمدينة..سأل أهلها قائلا.. هل بالمدينة رجل عاش مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالوا له نعم ..بقي منهم العالم الزاهد الفقيه.. أبو حازم سلمة بن دينار.. شيخ المدينة النبوية.. وخريج المدرسة المحمدية.. فأرسل إليه ..ولما جاءه.. بادره الأمير بقوله.. يا أبا حازم ما هذا الجفاء.. قال أبوحازم..وأي جفاء رأيته مني.. قال له.. أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني .. معاتبة لطيفة.. أراد منها أمير المؤمنين أن يختبر أباحازم.. قال أبوحازم.. بمنطق الواثق بالله.. يا أمير المؤمنين.. أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن.. فما عرفتني قبل هذا اليوم و ما أنا رأيتك.. فقال الخليفة لوزيره.. صدق الشيخ و اخطات أنا .. ومن أول الكلمات تبين موقف الشيخ..وظهر صدق الإيمان وقوة العقيدة.. فقد كان بإمكان الشيخ أن يعتذر..لو كان من أهل الدنيا و طلاب زينتها.. لكنه ورث العزة و رفعة النفس من هذا الدين العظيم .. فتمسك بالصدق ..واعتصم بالله.. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران : 101].. وارتفع الشيخ ليعلـّم..و تنازل الخليفة ليتعلم.. وهذا من دلائل هذا الحاكم الصالح..الساعي إلى الحج..المحب لجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الباحث عمن بقي ممن عاش مع الصحابة.. والمكرم للعلم و العلماء .. جلس الخليفة تلميذا ..وقام العالم معلما .. قال الخليفة يا أبا حازم.. ما لنا نكره الموت.. قال أبو حازم..لأنكم عمرتم الدنيا و خربتم الآخرة..فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.. وصدق أبو حازم ..فحري بكل مؤمن في كل زمان.. أن يتفقد نفسه..وأن يبحث عن مقامها حيث هي.. وحري بنا نراجع أنفسنا.. لكي نعلم مكانة الدنيا في قلوبنا.. و لنا أن نسأل ..لماذا كل هذا الصراع.. و يجيبنا خالق الخلق جل وعلا بقوله.. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد : 4].. فالتعب و المعاناة قدر الله على الإنسان ..لكن ..أين جعل الله معاناة الإنسان.. قال تبارك و تعالى قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء : 77].. فهل ما نرى من تعامل و كد و خصام كل ذلك من أجل الآخرة.. أم أنها مصالح العباد.. في زينة الحياة الدنيا .. ثم.. أليس من الأولى بنا.. أن نسأل أنفسنا .. لماذا نكره الموت؟..يا أنفس لماذا نكره الموت؟ وحري بنا أن نبحث في أعماقنا عن الجواب.. هل نكره الموت لأننا نحب الدنيا.. هل أن محبتنا للدنيا هي التي حملتنا إلى التعلم و شغل الوظيفة و بناء المسكن و شراء السيارة .. والتنعم بالحياة ..و الجواب إن كان ذلك أنسانا آخرتنا..و ألهانا عن مصيرنا..و جعلنا نشيع موتانا إلى المقابر بمشاعر تشييعنا لهم إلى مطار أو محطة قطار.. فلنعلم أننا لسنا على المسار الصحيح.. وأن الله ما خلقنا في الدنيا إلا من أجل الآخرة.. قال تبارك و تعالى تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال : 67].. والله الذي سبب وجودنا في هذه الحياة.. حدد لنا دورنا فيها.. فقال جل جلاله.. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56].. العبادة أولا ..و العبادة أساسا.. والعبادة مشغلا ..و العبادة منهجا .. فالعلم واجب شرعي .. لكن .. لا بد لهذا العلم أن يتدرج بالمؤمن نحو القرب من الله ..لا بد أن يذكره في كل لحظة بمراقبة الله..و أن يجعله في طاعة الله و تقواه.. و الوظيفة و العمل واجب شرعي.. لكن ..لابد أن يكون السعي في مرضاة الله..وأن يكون العمل فيه نفع في الحياة الدنيا.. يعين على الفوز بالحياة الآخرة.. صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..أن مر به أحد الشباب في الصباح الباكر.. فرأى الصحابة من قوته ونشاطه.. فقالوا يا رسول الله.. لو كان هذا في سبيل الله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله .. و بناء المسكن واجب شرعي.. و الغاية منه شكر الله ..والسكن فيه بطاعة الله ..وتأسيسه على ما يحب الله و يرضى..فيه المودة و الرحمة بين الزوجين ..فيه الإحسان للوالدين.. فيه تربية الأبناء على شرع الله .. وكل مباهج الدنيا ووسائل رفاهيتها حلال ..إذا بنيت على صلاح الآخرة.. فأساس وجودنا هي الآخرة .. وليست الدنيا ..وكل أمر لنا في الدنيا هو ليصل بنا إلى الآخرة.. فالدنيا في ديننا متاع..و الدنيا في ديننا لهو ولعب.. يقول ربنا وخالقنا جل وعلا.. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.. [الأنعام : 32].. الدنيا زوال زائل.. يعيش المؤمن مع والده خمسين عاما ..و يوم يموت الوالد فكأنما عاش معه أياما.. فعلينا بتقوى الله.. وحسن عبادته.. والإجتهاد في مرضاته.. لأن الإنسان كما جاء عن غير إرادة منه.. فكذلك يغادر على غير إرادة منه..
تزود من التقوى فإنك لا تدري
إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا
وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجي طول عمرهم
وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صحيح مات من غير علة
وكم من عليل عاش حينا من الدهر
لا تغفل يا مؤمن ..ولا تركن إلى الدنيا.. قيل لنوح عليه السلام: "يا أطول الناس عمراً كيف وجدت الدنيا؟وهو الذي عاش أكثر من ألف عام.. قال: وجدتها كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.. قارون ..كان من قوم موسى..جمع مال الدنيا..وانشغل بزينتها..ونسي الآخرة .. جاءه النصح.. أن يجعل الآخرة في كل عمل..وأن تكون الدنيا وسيلة بين يديه.. تحمله إلى الدار الآخرة ..قال الله جل جلاله.. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص : 77]و ما أجملها من كلمات.. وما أبلغها وما أثمنا .. وما أحكمها.. وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ.. الله الذي خلقنا ..والذي ركبنا ..و الذي عدلنا .. والذي جعلنا من المسلمين.. أحسن إلينا بنعمة البصر..وإحساننا إليه أن نستعمل البصر في مرضاته..و لا نستعمله في معصيته.. أحسن الله إلينا بنعمة الكلام..فلا نقول إلا خيرا.. أحسن الله إلينا بنعمة السمع .. فلا نسمع إلا ما يحبه و يرضيه.. وكل ما فينا نعم..فإن حفظناها من الآثام..و جعلناها في الطاعة.. فذلكم الطريق.. وذلكم المنهج..أن يعمل الإنسان للآخرة ..كي يسعد في الدنيا و يفوز بالآخرة .. اللهم اهدنا طريقك المستقيم .. ووفقنا للعمل بشرعك القويم .. واكتبنا من خاصتك و أهل دينك العظيم..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم /